* ذكرياتي مع مصطفى سعودي وزواوي عبد الحقّ من الانشغالات

* ذكرياتي مع مصطفى سعودي وعبد الحقّ زواوي
بقلم : البشير بوكثير رأس الوادي

إهداء: إلى أستاذيّ الحبيبيْن "مصطفى سعودي"و "عبد الحق زواوي" أقصّ هذه الكلمات، من شريط الذكريات.

من أنصع الصفحات في حياتي العلمية والمهنية ماخطّه في سطور صحائفها أستاذان جهبذان، ومربيّان ألمعيّان، لايمكن أن يجود بمثلهما الزّمان. أمّا أولّهما فقد كان غراسُه في نفسي أدبا وشعرا، وزهرا وسِحرا، حتى صرتُ أتنفس عبق الكلمات، ونسيم النبضات بين سطور المعاني الشاردات، وأتلمّس مواطن الجمال بين القوافي الناشزات، وأتحسّس وميض الأنّات ، في ثنايا العبارات الحارقات.
أستاذٌ جمع ذلاقة اللسان، وفصاحة البيان، وملكَ ناصية النّحو العربي فلايضاهيه فيه سوى " محمد العربي الوالي"و" أبي بكر حمراني" في هذا الزّمان.
عرفتُه ذوّاقا للشعر والأدب، حتى الثمالة والطرب، إذْ يرجع الفضل إليه في فتح مغاليق عقولنا على ذخائر وروائع الأدب العربي، فمن خلاله تعرّفتُ على أساطين الأدب والشعر من أمثال : المتنبي ، وبشّار، والبحتري وأبي تمّام، و المعرّي وأبي فراس ، والأحمديْن: أمين وشوقي…وغيرهم.
هو الأستاذ الأمجد، والمربّي الأسعد "مصطفى سعودي" -حفظه الله تعالى ورعاه-، الذي تتلمذتُ على يديه بالمتوسطة الجديدة "العربي بنّور حاليا" برأس الوادي خلال الموسم الدراسي (1980/1979) قسم السنة الأولى متوسط، حيث قدّم لنا في عام واحد وجبة دسمة أغنتْنا فيما بعد عن باقي الوجبات الأدبيّة الفاخرة.
ولشدّة تعلقي بهذا الأستاذ الأنموذج بقيتُ أراسله ويراسلني فترة من الزّمن، ولازلتُ أحتفظ ببعض رسائله الثمينة ، وبصورته الوحيدة مثلما يحتفظ الشحيح بماله مخافةَ إتلافه.
وأمّا ثانيهما فهو- يا أحبابي – الأستاذ القمقام، رفيع المقام "عبد الحق زواوي"، الذي حبّبَ إليّ علوم التربية وعلم النّفس حين كنتُ طالبا مدرّسا متربصا بمعهد التربية ببرج بوعريريج خلال الموسم الدراسي (1988/1987)، ولعلّ القاسم المشترك بين الأستاذين الفاضلين "سعودي وزواوي " الصرامة الحنونة -إنْ صحّ هذا لتعبير- والغيرة على التعليم، وهذا لعمري من أسباب نجاحهما في مسيرتهما العلميّة والمهنيّة إذْ يُعتبران اليوم من ألمعِ مفتشي التربية الوطنية في القطر الجزائري دون مبالغة.
فالأستاذ "عبد الحق زواوي" هو سليل الأمجاد، وخليفة النشامى الأجواد، من طينة الصّالحين العارفين بالله تعالى، وهو نسيجٌ وحده في دماثة الخُلق، وحصافة الرأي، وسداد الفكر والبصيرة، وصفاء الذهن والسريرة، ليّنُ الجانب، سهلُ المعشر، فعلى الرغم من صرامته الشديدة كان يحمل بين جنبيه نفسا شفّافة ، وروحا خفيفة هفْهافة، تجعلك تأنس إليه، وتهشّ وتبشّ كلّما وقع نظرك عليه .
يسحرُك حديثُه، وتبهرك ثقافته الموسوعيّة، وتدهشك استطراداته وتمكنّه من ناصية الاسترسال والارتجال السلس المنظّم، فهو من المثقفين القلائل الذين يقتلون الموضوع المتناولَ بحثا وتشريحا وتحليلا ودراسة مشفوعا بالشواهد العلمية والتاريخية والدينية والقرائن الفلسفية والتربوية، حتى لَيُخيًل إليك أنّك أمام بحر زاخر هدّار لاتنتهي عجائبه، ولاتنضب ذخائره ونفائسه ودرره.
في إحدى اختبارات مقياس علم النفس تحدّانا جميعا وسمحَ لنا بإخراج الكراريس والمراجع ليصل بنا في الأخير إلى قاعدة ذهبيّة ورسالة تربويّة لازال صداها يرنّ في أذني إلى اليوم: "أريد منكم أنْ تفهموا لا أن تحفظوا حفظا ببغائيّا"!
وفعلا نجح في التحدّي كما نجح في ترسيخ فلسفته التربوية في نفوسنا، وهي التي تقود سفينتنا اليوم في هذا البحر اللجيّ المتلاطم.
وليس عجيبا على إنسان هذا ديْدنه وتلك فلسفته في الحياة أنْ يتحصّل على أكثر من شهادة ليسانس في مختلف التخصصات، إضافة إلى الماجستير. ومادرجة الدكتوراه عنه ببعيدة ، بحول الواحد الأحد.
ولاأبالغ إذا قلتُ إنّني لم أرَ في حياتي أستاذا مُجدّا متوثبا للمعالي، طموحا في بلوغ السؤدد ونيل الغوالي، مثل أستاذنا عبد الحقّ، ولايكاد يضاهيه في الطموح سوى شاعر الحكماء، وحكيم الشعراء أبي الطيب المتنبي، وكأنّ لسان حالهما يردّد بيته السائر :
وإذا كانت النفوس كبارا * تعبتْ في مرادها الأجسام
وفي هذه السانحة لايمكنني أنْ أمرّ مرور الكرام دون أن أترحّم على أستاذ اللغة العربية "لعور بوالعيد " الذي درّسني بالمعهد المذكور، هذا الأستاذ الفاضل الذي كان فيضا مُتدفقا من المشاعر الإنسانيّة ، إضافة إلى كونه موسوعة في النّحو العربي ، ما جعلني أطلق عليه اسم" سيبويه البرايجي" رحمه الله تعالى.
وأذكر جيدا اهتمامه بالطلبة لاسيما نحن المقيمين بالمتقن الجديد في إطار النظام الداخلي، حيث كان يسألنا عن نوعية الطعام وظروف الإقامة خاصة في شهر رمضان.
هذه بعض الومضات السريعة مرّت الآن من أمام شريط ذكرياتي دوّنتها على عجل كي تبقى شاهدة على عظمة وعطاء أساتذة أفذاذ ، وظواهر إنسانيّة لن تتكرّر ، رسموا لنا درب الحياة بصبرهم وكدّهم وتفانيهم وإخلاصهم لرسالة الأنبياء . أكرمْ بها من رسالة !

الصور المرفقة
نوع الملف: jpg 1616393_695330137176186_1489483518_n.jpg‏ (41.6 كيلوبايت, المشاهدات 22)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.