التعريب ضاع في الجزائر بسبب الأمزجة وتوجهات الوزراء -تاريخ جزائري

الوزيرة السابقة والكاتبة زهور ونيسي / الجزء الرابع

التعريب ضاع في الجزائر بسبب الأمزجة وتوجهات الوزراء

كافحتُ طويلاً لأن تكون الإنجليزية هي اللغة الثانية بدل الفرنسية ولم أنجح

العولمة تشكل خطرا على الهوية واللغة العربية اليوم أكثر من أي وقت مضى

الحديث إلى السيدة زهور ونيسي يسافر بك دون أن تدري، فتدخل دواليب الحكم أيام الرئيس بومدين والشاذلي بن جديد وتحتار بين الشخصيات التاريخية التي تسأل عنها. لأن أول وزيرة في تاريخ الجزائر المستقلة ربطتها علاقات صداقة قوية بأبرز الشخصيات منذ أيام جبهة التحرير التاريخية والتي صنعت فيما بعد تاريخ الجزائر بعد الاستقلال.

رغم علاقتك الطيبة مع رابح بيطاط إلا أنك رفضت تعليمه اللغة العربية.. لماذا؟
رفضت طلبه خجلا وهيبة، رغم أن الراحل رابح بيطاط كان حبيب الجميع، كان رجلا مجاهدا ومتواضعا ووطنيا وشعبيا وغيرها من الصفات النبيلة والجميلة التي قد تتبادر إلى الذهن.
وربما لو كان شخصٌ آخر مكاني لما رفض شرف تعليمه اللغة العربية ولكني للأسباب التي ذكرتها رفضت بلباقة واقترحت أسماء أخرى.

هل يمكن أن نعرف هذه الأسماء؟
كل مداولات البرلمان كانت باللغة العربية وهو كان يتحدث الدارجة القريبة للغة العربية "اللهجة القسنطينية" ولكنه أراد أن يقوي لغته العربية بالتعلم. اقترحت أسماء ولا أعرف فيما بعد إذا كان تعلم فعلا أم لا.

بعد وفاة الرئيس هواري بومدين، كنت ممن رأوا في بيطاط رجل المرحلة حسب ما ورد في مذكراتك لماذا؟ وهل يعني هذا أن الشاذلي بن جديد لم يكن مقنعا؟
كان الصراع محتدما وكثيرون طمعوا في تولي شؤون البلاد وحلموا بمنصب رئيس الجمهورية بعد وفاة بومدين. لكن سي رابح أراد أن ينتصر للدستور، أراد أن ينتصر للانتخابات وأن تثمر الأربعين يوما التي سير فيها الدولة مرحلة قانونية ودستورية.
الشاذلي هو من منع العربي بلخير وغيره من منحة العلاج في سويسرا
كان لا يريد أن يرضخ للضغوط الكثيرة التي مورست عليه، فانضبط الجميع وتم اختيار المترشح لرئاسة الجزائر ونظم مؤتمر جبهة التحرير الوطني بالقبة البيضاوية وقضي على الصراع بصفة نهائية. كان الانضباط هو الأساس عند مناضلي جبهة التحرير وكانت الثقة هي الوسيط مع القيادة.

رأيت أن بيطاط يستحق الوصول إلى المرادية لأنه ابن قسنطينة؟
أبدا.. لا علاقة للأمر بالجهوية، وأنا محسوبة على كل الوطن بكل مدنه وأريافه. كل الجزائريين في الشرق والغرب والشمال والجنوب إخواني. عندما نصحت ابني الدكتور هشام بالزواج، قلت له "اختر شريكة حياتك من أي منطقة في الجزائر ولا تفكر أبدا في الزواج بأجنبية".
وعليه ما يبرر رأيي هو أولا باعتباره رجلا تاريخيا في الحركة الوطنية ولأنه كان رئيس المجلس الشعبي الوطني وثالثا سمعته وأخلاقه، وهذا لا يجعلني أنفي الأخلاق عن الآخرين أو أشكك في نضالهم، أبدا. ولكنها وجهة نظري وعبّرت عنها بصراحة، رابح بيطاط كان من الرافضين للصراعات ولا يلهث وراء الحكم، ولذلك أنا أقدّر هذه الصفات فيه.

من تحمِّلون مسؤولية فشل تعريب الإدارة في الجزائر؟
تعريب الإدارة الجزائرية كان حسب الرجال والأمزجة، لما كان بوعلام بن حمودة على رأس وزارة الداخلية، أسس إدارة خاصة بتعريب الإدارة على رأسها الكاتب والناشر صاحب "دار الأمة" أحمد بن نعمان وكادت الإدارة أن تتعرب. وبعض التعريب الذي مسّ بعض الوثائق الإدارية كشهادة الميلاد وشهادة الإقامة وغيرها كان بفضل بوعلام بن حمودة.
عندما جاء وزيرٌ آخر رأيه مخالف لمن قبله فيما يتعلق باللغة العربية، تغيرت إستراتيجية العمل وظلت مرتبطة بالأمزجة إلى اليوم، حيث نلاحظ أن وزير الداخلية الطيب بلعيز يتحدث في كل مداخلاته باللغة العربية مثلما كان في وزارة العدل، أما قبله فكان العكس.

ارتبط اسم زهور ونيسي بالرقم "واحد" فأنت أول كاتبة لرواية جزائرية باللغة العربية وأول رئيسة مجلة وأول رئيسة اتحاد النساء الجزائريات وأول وزيرة في الجزائر المستقلة؟
(تضحك).. هذا الرقم خلق لي أعداء وحسادا ومتآمرين كثيرين، مع العلم أنني لست من نصَّب نفسه وإنما هي نتيجة عمل وجهد وظروف.

كنت أيضا كاتبة لأول وزير أوقاف وهو أحمد توفيق المدني -رحمه الله- هل هي الصدف أم الوساطات؟
الأمر بسيط ومتعلق غالبا بالصدف، تأخر الرئيس بن بلة وتلكأ وتماطل ولم يمض قرار الاعتراف بنا كمجاهدين وكمعلمين في "التعليم الحر" في نفس الوقت لمدة سنتين في إطار الصراع الفكري بين حزب الشعب وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين. ولو أن جوهر التنظيمين وهدفهما كان تحرير الجزائر ولا وجود لأي صراع حقيقي وعميق، فتوقفنا عن العمل لمدة سنتين وأصبحت كل المدارس والمؤسسات تابعة لوزارة التربية والمعلمون الذين كانوا يدرِّسون فيها تحوّلوا إلى علامات استفهام، إما أن نخضع لتربصات ودورات تكوينية أو يُعترف بنا كمعلمين مباشرة، وبين الخيارين وفي انتظار قرار بن بلة أمضينا العامين من دون عمل.
وخلال تلك الفترة شاءت الصدف أن التقي الشيخ أحمد توفيق المدني في احتفالات أول نوفمبر سنة الاستقلال، وكان رفقة الدكتور عبد الخالق حسونة الأمين العام لجامعة الدول العربية في ذلك الوقت.
وكنت حاضرة في الاحتفال بصفتي مجاهدة مرافقة لوفد نسائي من العراق ترأسه الشاعرة عاتكة الخزرجي، فحييته وتحدثت إليه وهو من كان يشجعني على الكتابة في جريدة "البصائر" فقدَّمني بكل فخر للسيد حسونة وبدأ يسأل عن عملي وأوضاعي، وردي كان "بن بلة لم يتخذ قراره من التعليم الحر". للإشارة كان العمل قائماً وسار بخطى حثيثة بفضل المجاهد عبد الرحمن بن حميدة أول وزير للتربية بعد الاستقلال والشيخ عبد الرحمن شيبان رحمه الله، فعرض عليّ أن أعمل معه ككاتبة باعتباري أحسن اللغة العربية.

كانت الوزارة الوحيدة التي توظف المعربين؟
نعم الوزارة الوحيدة ونوعا ما وزارة التربية من منطلق أن مهمتها هي جمع شمل الفئتين أي المعربين والفرونكوفونيين. وبعد مرور السنتين اعترف بنا معنويا وماديا.

قال لك أحمد طالب الإبراهيمي "ستدخلين التاريخ" ودخلتِه فعلاً باعتبارك أول وزيرة في تاريخ الجزائر المستقلة.. من رشحك للمنصب؟
لم أفكر يوما في منصب وزيرة حتى عندما كنت عضوا في البرلمان، ولذلك أصابني الفزع والخوف إلى درجة أني بكيت عندما استدعاني الرئيس الشاذلي بن جديد، ربما قد لا يصدق البعض ما أقول ولكنها الحقيقة. لطالما كان هدفي هو العمل دون انتظار أي مناصب مسؤولية كمقابل.
لولا بن حمودة وبن نعمان لما عُرِّبت الوثائق الإدارية في الجزائر
وعندما ذكرت هذه الحقيقة قال أحدهم "هذه هي ضخامة الأنا"، وحتى عندما أردت أن أصبح أستاذة درست في الجامعة ولم أعوِّل على أي شيئ آخر كالأقدمية أو ما شابه. ورفضت منصب مديرة مدرسة أو مديرة ثانوية واكتفيت بمهمتي كأستاذة في الثانوي.
عندما جاءني هذا الخبر أصابني الفزع فعلا، لأنني رأيت فيها تكليفا ومهمة صعبة.

هل عرفت فيما بعد من رشحك لهذا المنصب؟
هناك من قال لي يومها إن الرئيس بومدين كانت لديه هذه الفكرة وغيرها من الأفكار في ورقة خاصة وعندما جاء بعده الشاذلي بن جديد رحمه الله طبق ما جاء فيها. لكنني شخصيا لا أجزم بصحة ذلك أو خطئه لأن كليهما يحب الرقي للمرأة ويؤمن بكفاءتها.

وماذا قال لك الشاذلي بن جديد؟
الشاذلي بن جديد عندما استقبلني ليعرض عليّ المنصب قال لي إنه شاهد مقابلتي الثقافية في التلفزيون مع الإعلامي بن قارة، وأن عبارة "في الثورة ما قال حدّ لحد" أعجبته كثيرا. ولكن لا أجزم أيضا أن إعجابه بالمقابلة هو ما جعله يعيِّنني، ثم إن المقابلة كانت ثقافية إلا إذا كان رشحني لوزارة الثقافة وبعض المحيطين به استكثروا عليّ ذلك.. لا أدري، فاقترح عليّ وزارة الشؤون الاجتماعية التي استحدثت بعد أن كانت تابعة لمولود أمزيان.

رفضت إعطاء العربي بلخير رئيس الديوان آنذاك منحة للعلاج في سويسرا.. ألم تخشي ردة فعله؟
كانت هناك تجاوزاتٌ كثيرة جراء استغلال بعض المسؤولين لمناصبهم استغلالا كاملا، ويحصلون الكثير من الامتيازات منها العلاج في الخارج. ثم ان اتفاقيات الجزائر فيما يتعلق بالعلاج كانت مع فرنسا فقط وليس مع سويسرا. بعد اطلاع الرئيس الشاذلي على ملفات منح العلاج في سويسرا قرر منعها. وأنا نفذت تعليماته وبالتالي عندما وصلني طلب العربي بلخير _رحمه الله- والذي كان رئيسا للديوان رفضت وأعلمته بأن ذلك قرارٌ رئاسي، فتساءل مستغرباً "حتى أنا؟" فقلت له مؤكدة: "حتى أنت".

هل أحسست يوما ما في مرحلة من مراحل مسيرتك المهنية أنه انتقم منك؟
لم يكن يهمني إلا أداء مهمتي كاملة ولم أكن أتعامل بحسابات وإنما وفق ما يمليه القانون دون التفكير في الأخطار التي من الممكن أن تلحق بي بعدها.
لست أدري إذا كان القرار طبِّق عليه فعلا، لأنه قد يكون حصل على المنحة من آخرين. المهم أنني طبّقت وأعطيت الأوامر للعاملين معي في الوزارة وكان الأمين العام محمد الصغير باباسي الذي يرأس اليوم المجلس الاقتصادي الاجتماعي للشهادة يطبق التعليمات، وعندما لا يتفق معي يناقشني.

ثم عُيِّنت وزيرة للتربية الوطنية التي كانت ملغمة وقتها، يتجاذبها التياران المعرب والفرونكوفوني.. هل تعتبرين مصطفى الأشرف كما يصفه البعض "مرتدا ثقافيا"؟
كان هناك صراع بين ثقافتين، كل من رضع لبن ثقافة ما يخلص لها، ربما مصطفى الأشرف وكثيرون شاطروه الرأي، كانوا يرون أن الجزائر تكون مزدوجة اللغة، وتيار آخر رأى العكس ورافع لأن تكون للجزائر لغة رسمية واحدة وانتصر هذا التيار. ولكنه لم ينتصر واقعيا أو عمليا خصوصا في السنوات الأخيرة. وكم كافحت حتى تكون اللغة الانجليزية هي اللغة الثانية بدل الفرنسية ولم أنجح في ذلك.
أحداث أكتوبر 88 مؤامرة وتلاميذ هاجموا وزارة التربية ثم هاجموا بيتي رفقة 3 شبان
العمل لم يكن محصورا في وضع البرامج والمناهج الحديثة للتدريس وتكوين الأساتذة، وإنما كان الاهتمام الأكبر بالورشات المفتوحة لاستيعاب مليون طفل في السنوات الأولى. ربما كنا سننجح لو لم تهجم علينا "العولمة" ولكننا اليوم تابعون طوعيا للخارج وعليه فالخطر على اللغة العربية وهويتنا اليوم اكبر من أي وقت مضى.

بصراحة هل أقالوك أم استقلت سنة 1988؟
كما سبق وقلت أحداث أكتوبر قامت للقضاء على جبهة التحرير ورموزها، ربما اخترت كأحد رموزها، لذلك هاجموا منزلي. وأقصد جبهة التحرير التاريخية لا جبهة التحرير اليوم. ضُرب مقر الوزارة في رويسو ثم هاجم التلاميذ بمآزرهم البيضاء بيتي رفقة ثلاثة شبان. هذه العملية غامضة جدا وجزء من عملية كبرى وصعبٌ أن نعرف كل الحقيقة مثلما لم نعرف من قتل بوضياف، هذه الأمور لا يدركها إلا من خطط لها ومن صنعها. أنا كنت من المتضررين يومها وهوجم منزلي وعشنا ساعات ذعر في الحي، ولكن تضررت مؤسسات وتضرر أشخاص كثر أيضا. وما يحدث الآن في دول الربيع العربي حدث في الجزائر سنة 88. لن يقنعني أحد بأن هذا غير صحيح؟.

تؤمنين بفكرة المؤامرة أكثر من إيمانك بإرادة الشعوب؟
نعم أنا مؤمنة أنها مؤامرة ولكن بتواطؤ أيدي داخلية خفية مع أطراف خارجية. النظام في الجزائر كان شريكا في أحداث أكتوبر.

يحمِّلون الشاذلي مسؤولية ما حدث في تلك المرحلة رغم سيطرة ضباط فرنسا الذين أتى بهم بومدين، ما رأيك؟
كل العوامل كانت مجتمعة في تلك المرحلة، لأن القول بأن الشاذلي لم يكن رئيسا بكامل الصلاحيات، غير دقيق، ولكن الأكيد أن أي رئيس دولة لا يمكن أن يكون ملما بكل التفاصيل، وأيضا دخل على الخط من يسمون "ضباط فرنسا" إضافة إلى المؤامرة الكبرى على الجزائر. كلها عوامل تداخلت وتفاعلت وصنعت الأزمة.

وكيف أصبحت علاقة زهور ونيسي بجبهة التحرير الوطني بعد أحداث أكتوبر 88؟
توقفت علاقتي بالحزب مباشرة بعد المؤتمر، أكملتُ عضويتي في اللجنة المركزية وساهمت في المؤتمر كمناضلة ولكن لم أرشح نفسي. توقفت عن قناعة.. وعُرض عليّ الانضمام إلى عدة أحزاب بعد التعددية ورفضت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.