الطائرة بعيون أندلسية

الطائرة … ابتكار عجيب من أعقد ما أفرزته العقول لبني البشر … آلة مثيرة بحق ! سحر عجيب يقارع عنان السماء، يسابق الغيوم، يطوي في يُسْرٍ الزمان و المكان فتُخْتَزلُ رحلات الشتاء و الصيف ساعات و ربما دقائق!! ابتكار ندين فيه بالفضل و العهدة على مدلس تاريخنا و طامس آثارنا إلى الغرب.

و لكن أظن أن نظرة متدبرة منصفة عادلة عن كثب لذلك السحر الطائر ستكشف لنا عن حلقة مفقودة أو ربما أخفيت عمدا لفضل الحضارة الإسلامية و إبداعها الذي أوجد البيت الذي يؤثثه الغرب لنا.

في رحلة الحقيقة لن نلعن ظلاما خيم و لن نسب دهرا ضاقت علينا دوائره و لن نبكي أطلال ماض مجيد أتت عليه أيام ذلنا و تقاعسنا فوئدته الثرى وجعلته هباء منثورا، ولكن هي بعض من كياسة و غيرة على دين الله نستفز بها بعض ما أودع الله في هذه الأمة من مواهب عظيمة و طاقات هائلة كانت لدى أجددنا فأعملوها فسادوا بها الدنيا.

لننطلق في رحلة الحقيقة و العلم من أكثر أنصاف الحقيقة بديهية و شيوعاً و هي أن الفضل لما عليه الطائرة اليوم يعود للأخوين رايت و من قبلهما ليوناردو دا فينشي و أن محاولات العالم المسلم عباس بن فرناس للطيران في القرن التاسع ميلادي في الأندلس لا تعدوا أن تكون محاكاة ساذجة للطيور سبقه إليها اليونانيون حيث صنع ايكاروس و والده دايدالوس أجنحة من الريش والصمغ وطارا فيها بعيدا عن سجنهما.

image-c4d9cd536bba518a5968abdf43ce6913

و لكن ما غُيِّبَ من صفحات التاريخ و أُسْقِط من مناهج التعليم أن عباس بن فرناس سبق الأخوين رايت بألف عام بمحاولة الطيران و صناعة طائرة!! و هذا ما أورده المؤرخ “فيليب حتي” في كتابه الثمين – تاريخ العرب – حيث قال “ابن فرناس كان أول رجل في التاريخ يقوم بمحاولة عملية للطيران”.

abbas-ibn-firnas

لقد كان ابن فرناس أول من قام بمحاولة طيران “متحكم فيها” في التاريخ حيث قام بالتعديل في متحكمات الطيران لطائرته الشراعية باستخدام جناحين صناعيين لكي يتحكم في ارتفاعه ويتمكن من تغيير اتجاهه ليعود بنجاح إلى الموضع الذي طار منه.

و على الرغم من أن عملية الهبوط لم تكلل بالنجاح فقد أثبت هذا العالم الفذ استيعابا صحيحا لديناميكا الهواء و الهندسة الكامنة وراء قدرة الطيور على التحليق كما أبرز إمكانيات علمية ملفتة تتجاوز سذاجة التقليد الأعمى إلى عبقرية الابتكار المبدع فكان له شرف صناعة أول طائرة شراعية في العالم تمتلك أجنحة صناعية و متحكمات طيران!!

daily2.603172

حسنا يقول القائل ربما يُرد الفضل إلى عباس بن فرناس في رسم الخطوط العريضة لعِلمْ تصميم و صناعة آلات الطيران، و لكن لولا الأخوان أورويل و ويربول رايت لما وُجدتْ الطائرة ذاتية الدفع على الشكل الذي نعرفه حاليا!

لا ينكر أحد أنه في صباح يوم 17 كانون أول 1903 على الساعة 10:35 نجح اورويل في التحليق بنجاح على مدى 12 ثانية, قطع خلالها مسافة 37 مترا. تبعه بعد ذلك في التحليق شقيقه ويلبور, الذي قاد الطائرة على مدى دقيقة كاملة قطع فيها مسافة 270 متراً و ذلك بفضل المحرك المنزلي الصنع الذي أضافاه إلى طائرتهم البالغ وزنها 340 كيلوغرام.

ilkucussm

و لكن أستدرك بالقول بأنه لولا مضخة المكبس ذي الاسطوانات التي أبدعها العالم الميكانيكي المسلم الجزري لاستمتع العالم بمشاهدة الأخوان رايت يمارسان رياضة تبديل الدواسات للحفاظ على الطائرة في الهواء كما تخيلها دا فينشي من قبل حيث صمم آلية لخفق جناحي آلته تماما مثل جناحي الطائر معتمدا في ذلك على مفصلات و بكرات معقدة تمسك بأطراف الأجنحة بإحكام.

Untitled-1

Untitledyy

قد يتبادر إلى الأذهان السؤال التالي : حسنا ما علاقة مضخة الجزري بالمحرك الذي زودت به طائرة الأخوين رايت؟!!

Screen Shot 2024-01-27 at 10.31.05 PM

في سنة 1206م أتم بديع الزمان أبو العز بن إسماعيل بن الرزاز الجزري كتابه الفريد “الحيل الجامع بين العلم والعمل” و الذي أورد فيه رسوما توضيحية و شروحا مستفيضة لعدد كبير من التصاميم والوسائل الميكانيكية التي مهدت الطريق أمام الهندسة الميكانيكية كما نعرفها اليوم.

Scaler-246

و من أهم الآلات التي صممها الجزري مضخة المكبس ذات الأسطوانات الأولى في فئتها في العالم و التي عدّها مؤرخو العلم و التكنولوجيا كما يقول “نيدهام” إنجازاً هاماً في تاريخ الهندسة الميكانيكية.

2378.gif

في هذه المضخة عجلة تجديف مركبة على محور أفقي فوق مجرى الماء تدير عجلة مسننة مثبتة على الطرف الآخر من المحور، و التي بدورها تدير عجلة مسننة أفقية متصلة بكباسين نحاسيين متقابلين يتحركان حركة مستقيمة دورية. أما الأسطوانتان اللتان يتحرك الكباسان فيهما فمتصلتان بأنابيب لمص الماء ثم صبه. أنابيب المص تشفط الماء من مصدر الماء أسفلها، فيما أنابيب الصب تصب الماء عند نقطة ترتفع 12 متراً عن الآلة. كانت تلك الآلة الأولى في العالم التي توظف عملياً نظرية الفعل المزدوج، أي فيما أحد الكباسين يشفط الماء يضخ الكباس الآخر هذا الماء نحو فتحة السقف.

سجلت هذه الآلة المذهلة العديد من براءات الاختراع الثورية في مجال الهندسة الميكانيكية مازلنا نقطف ثمارها إلى حد الساعة!

و من أبرز هذه الابتكارات التي دُمجت بإبداع و عبقرية في مضخة الجزري عامود المرافق أو ما يُسمى بـ Crankshaft الذي هو أهم جزء في أي محرك وبدونه ما كان المحرك ليصبح محركاً، و قد خَصّه الجزري بشرح مفصل سَبق بـ 300 عامِ كاملة إستخدام المهندسين الأوروبيين له لأول مرة، وقد كان ليوناردو دافينشي أحد أوائل المصممين الذين استخدموا هذا الابتكار.

powert

كذلك نجد عامود الحدبات (Camshaft) وهو من أهم الأجزاء في عملية دخول

variable_timing_camshaft_lifter

و خروج الغازات من غرفة الاحتراق في المحرك ومضخة الماء المكبسية (Water Pumps) وتقنية تزويد المياه (Water supply system) التي لا غنى عنها في عملية التبريد في المحرك. كما زودت المضخة بنظام التروس المسننة (Segmental gear) الذي يؤمن نقل الحركة الخطية إلى حركة دائرية، تماما كما هو سائد حاليا و الذي ظهر لأول مرة في مخطوطات الجزري بينما لم تعرفها أوروبا إلا في ساعة جيوفاني ديدوندي الفلكية التي صممها بعده بزمن طويل وتحديداً عام 1364.

من الجليّ أن الجزري بابتكاره الترس أو “الدولاب المسنن”، وذراع التدوير “الكرنك” و”المكبس” البستون، وعمود التدوير قد منح الإنسانية خطوات جبارة و كبيرة على طريق التقنية و التطور التكنولوجي جعلت من مضخته الماصة ذات المكبس الجَدَّ المباشر للمحرك البخاري الحديث و لولاها لتأجلت رحلة طيران الأخوين رايت عشرات السنين إلى حين ابتكار هذه الأنظمة الميكانيكية المتطورة التي لا تخطئها العين الخبيرة في جُلّ محركات السيارات و الطائرات و السفن و الكثير من آلاتنا الحديثة.

و الجدير بالذكر أن أول محرك بخاري عملي في تاريخ العالم يعود إلى سنة 1546 على يدي العالم المسلم تقي الدين محمد بن معروف الشامي الذي انطلق من محرك العالم هيرو في الإسكندرية ليضع تصميمه المطور لآلة تدور بقوة البخار.

أجنحة صناعية، متحكمات طيران، تروس مسننة، ذراع التدوير، المكبس، عامود الحدبات، المحرك، مضخة الماء …

بات من الجلي أن الإبداع الهندسي الذي صاغ طائرة اليوم ليس وليد اللحظة و لكنه حصيلة تراكمات تقنية لقرون عدة كان للعلماء المسلمين منها نصيب الأسد و السبق في أكثر من موضع.

لولا أن رحلتنا شارفت على نهايتها لكان لنا وقفات عند تقنيات الملاحة الجوية و أجهزة الإستشعار و صناعة المعادن التي ابتدعها أجدادنا و سطروا فيها فصولا ناصعة من الإبداع و الإبتكار لا يتسع المجال لاستعراضها.

دراستنا للطائرة ليس إثباتا للنسب و لا من باب الإشادة و التسويق لتاريخٍ قد ولى و لكن إقراراً بتفوق التجربة العربية الإسلامية التي تستحق الدراسة و الرجوع إلى أسباب نجاحها القياسي حتى نستسقي منها الدروس و نستخلص منها العبر لعل أن نرد السحر على الساحر و نجد بدورنا طريق نهضتنا!

أجدادنا رغم قلة الموارد و صعوبة البدايات لم يركنوا إلى السكون و لم يلتمسوا لأنفسهم ككثير منا من الأعذار و الحجج التي بلغنا الكمال في تمام حبكها و صعوبة ردها حتى أن إبليس تعجب و تحير!

فكانوا بحق نساك الليل علماء النهار، ملأوا الدنيا إبداعاً و أخلاقاً و لم يرضوا أن يكونوا مع الخوالف فما أغفلوا ضرباً من ضروب العلم و الفن إلا و تعلموه و زادوا عليه، فكانوا يداً عليا أبدعت حضارة من أعظم الحضارات في التاريخ.

ولنا إن شئنا إطلاق مارد الإسلام من جديد و تحريره من قمقمه الصدئ بأن نفركه و نذهب عن هذا الأخير ما علاه من غبار و صدء طمس معالمه حتى يرى العالم فجراً اشتاقت الشمس و الأرض و الحجر و السماء و كل حي رؤيته، فجر عز فيه المسلمون و أبدعوا، ففتحوا قلوبا و عقولا دون غزوٍ و لا إكراه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.