تفكير الإمام المصلح عبد الحميد بن باديس

[align=center]

تفكير الإمام المصلح عبد الحميد بن باديس

لا نريد الخوض في حقيقة تفكير ابن باديس : أهو تفكير ذو طابع ديني أم هو تفكير سياسي، أم تفكير فلسفي…؟

أيا كانت الإجابة فالمعروف عن ابن باديس أنه عالم ديني، ومصلح اجتماعي ومفكر سياسي، و أستاذ مرب، وكاتب مجيد، وصحافي قدير.

ومن الكتاب من يعتبره إلى جانب ذلك فيلسوفا، ومنهم من لا يريد أن ينسبه إلى الفلسفة باعتبار الفلسفة بناء فكريا نظريا، نتائجه ظنية احتمالية، ولأن البحث الفلسفي ينطلق من تصورات مجردة، ويقوم على الجدل العقلي الذي ليست له غاية نفعية يستفيد منها عموم الناس، وفلسفة بهذا المفهوم لا تنسجم مع طبيعة ابن باديس، ولا مع تفكيره العملي.

ولهذا لا نستطيع أن نصفه ضمن قائمة الفلاسفة الذين كرسوا حياتهم وأبحاثهم للخوض في المسائل الفلسفية التجريدية، التي لا تنزل إلى واقع الناس، ولا تعالج مشكلاتهم ولا نستطيع كذلك أن نجرده من التفكير الفلسفي الذي يتناسب مع روحه الدينية و اتجاهه الوطني، وبرنامجه الإصلاحي، وانشغلاته السياسية والاجتماعية .

– الجانب الفلسفي في تفكير ابن باديس

– السمات المميزة لتفكير ابن باديس

– ابن باديس الفقهيه المجتهد

– التفكير التربوي للإمام عبد الحميد بن باديس

– نظرة إبن باديس إلى الإنسان

– المعرفة والعلم في نظر ابن باديس

– ابن باديس وتعليم المرأة

– العمل الجماعي في نظر ابن باديس

الجانب الفلسفي في تفكير ابن باديس

و من هنا يمكننا القول إن الفلسفة التي نستطيع أن ننسبها إلى ابن باديس ليست الفلسفة التي يجنح فيها العقل إلى التصورات المجردة، والتأملات الحاملة، والمسائل النظرية البحتة، التي لا تتصل بواقع مجتمعه ولا تسهم في حل مشكلا ت واقع هدا المجتمع، وإنما الفلفسة التيس نستطيع أن ننسبها إليه، ونجعلها جانبا من تفكيره هي الفلسفة العملية، التي يستطيع أن يترجمها الإنسان إلى واقع الحياة، و يعيش حقائقه؛ الفلفسة التي يتطابق فيها القول مع الفعل،و الاعتقاد مع السلوك ،و يتكامل فيها التصور النظري مع الممارسات العملية، الفلسفة التي تبحث في الحقائق التي يعيشها الإنسان، ويكون منطلقها واقع المجتمع، وأساسها روح الإسلام وأصوله، وغايتها تحرير المجتمع من كل أشكال الظلم والتخلف والتسيب، والتي تستهدف في مناهجها إعادة تشكيل الشخصية الجزائرية، التي أصبها الوهم، نتيجة ظروف الانحطاط، وسياسة الاستعمار .

إن الفلسفة التي تطبع تفكير ابن باديس فلسفة واقعية تنبع من تفكير إنسان واع، مرتبط بوطنه، وملتزم بحقائق دينه، مستوعب أسباب معناة بلاده، متطلع إلى معايشة عصره، فلسفة تلح على تمتين الصلة بين الفكر والعمل، والمزواجة بين النظرية والتطبيق، هده بعض سمات التفكير الباديسي، إن سمات تمتزج فيها الجوانب الدينية والسياسية، والأخلاقية والعلمية والوجدانية والعقلية، ولكن السمة البارزة في هدا التفكير هي السمة الدينية المطعمة بالنزعة العقلية ، باعتبار العقل " ميزة الإنسان و أداة عمله " كما يقول ابن باديس، والعقل من ناحية أخرى هو القوى الروحية التي بها يكون التفكير والنظر

وتجدر الإشارة إىل الطابع المميز لتفكير ابن باديس تجسده آراؤه وأفكاره ومواقفه، التي صار عليها في حياته ،و بنى على أساسها مشاريعه الاصلاحية،و شكل منها منهجا اعتمده في معالجة أوضاع مجتمعه و برنامجه التعليمي، و هي كما نرى فلسفة عملية أكثر منها نظرية، لأنها لا تنظر إلى السماء بقدر ما تنظر إلى الأرض و تعالج الأمور التي استحودت على تفكير الإنسان بمنطق الواقعية ،لأنها فلسفة تستمد روحها من روح الإسلام وأصوله ،و تجعل هدفها تجسيد هذه الأصول و تقريبها من الناس، و الاستفادة منها، وتصحيح المفاهيم، والاعتقادات، وتهديب السلوك الفردي والاجتماعي، ودفع الناس إلى الإسهام في تغيير واقعهم، وتحسين ظروفهم، ليكونوا أهلا للاستخلاف الذي استخلفه الله في أرضه.
السمات المميزة لتفكير ابن باديس

إن المتتبع لأراء ابن باديس في الدين و السياسة و الأخلاق و العلم و التربية، وفي القضايا الوطنية والثقافية التي ترك لنا فيها آثار مكتوبة يجد أنها آراء نابعة من فكر إنسان ملتزم بحقائق دينه و تاريخ أمته، ونهج سلفه، ومتفاعل مع واقع مجتمعه وحقائق عصره، ومتفتح على أفكار غيره ، حريص على بعث يقظة فكرية و سياسية في نفوس الأجيال ، تعيد للأمة عزتها و للعروبة والإسلام مجدهما، وللوطن كرامته وحريته، و تبعث في الشباب روح العزم على التغيير وإرادة البناء لتخليص الوطن من المحن التي أصابته.

إن القراءة المتمعنة في هذه الآراء ****نا إلى استخلاص السمات المميزة للتفكير الباديسي، تلك السمات التي تبين لنا أن تفكير ابن باديس تفكير عقلاني متفتح من جهة، و سلفي ملتزم من جهة ثانية، والسلفية عنده لا تعني تقليدا أعمى للأوائل ولا تقديسا للماضي من حيث هو ماض، وإنما تعني اتباعا للنهج الذي رسمه الإسلام، وسار عليه رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم النهج الذي اتبعه الأئمة المجتهدون الذين فهموا حقائق الإسلام، واستلهموها في اجتهاداتهم وأحكامهم، وفي معالجة الأمور التي طرأت على مجتمعاتهم.

السلفية عنده لا ترفض معايشة العصر، والتفتح على علومه، والاستفادة من كل ما يمكن المجتمع من مسايرة الركب الحضاري كما لا ترفض الرجوع إلى العقل في معالجة الأمور دون أن يكون في ذلك ما يمس جوهر العقيدة و يتضارب مع حقائق الإسلام، وفي هذا الصدد يذكر ابن باديس أنه كان في فترة الدراسة متبرما بأساليب المفسرين وإدخالهم التأويلات الجدلية في كلام الله… ضيق الصدر من اختلافهم فيما لا اختلاف فيه من القرآن، و كانت على ذهنه بقية غشاوة من التقاليد …ثم يقول: و ذكرت يوما الشيخ النخلي فيما أجده في نفسي من التبرم والقلق، فقال لي : أجعل ذهنك مصفاة لهذه الأساليب المعقدة، وهذه الأحوال المختلفة، و هذه الآراء المضطربة يسقط الساقط ويبقى الصحيح وتستريح .يقول ابن باديس بعد ذلك : فوالله لقد فتح بخذخ الكلمة القليلة عن ذهني آفاقا واسعة لا عهد له بها، هكذا زالت الحيرة التي كان فيها ابن باديس بعد أن اهتدى إلى طريق اليقين الذي فتح عينيه على الطريق الذي ينبغي أن يتبعه المفكر، وهو أن يعتمد عقله دليله في الاهتداء إلى التمييز بين الآراء الصحيحة والآراء السقيمة.

هذا التزاوج في تفكير ابن باديس بين التفتح العقلي على الحياة المعاصرة والالتزام بالأصول الدينية الصحيحة هو تزاوج مستمد من تفكير إسلامي كما أسلفنا.

لأن التفكير الإسلامي الأصيل يقوم على التوازن والتكامل بين الجوانب العقلية التي وظيفتها التدبر والتأمل والاستدلال, وبين الجوانب الروحية الوجدانية التي وظيفتها الإيمان والامتثال والالتزام, إذ البحث العقلي واجب الإنسان المسلم, وقد شرح ابن رشد هذا التواؤم بين العقل والدين, أو بين الحكمة والشريعة في كتابه "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال" وأوضح أن ما يؤدي إليه البحث العقلي لا يخالف ما قرره الشرع يقول : "غذا كانت الشريعة حقا, وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق, فإن الحق لا يضاد الحق, بل يوافقه ويشهد له" وكل ما في الأمر أنه يجب على المفكر الذي يتصدى إلى البحث في العقائد وأمور الدين… أن يستوفي شروط البحث من ذكاء الفطرة, والعدالة الشرعية… وأن يكون فيما يتعلق بظاهرة الدين الذي يحتاج إلى تأويل من أهل التأويل وصياغة البرهان.

وفي هذا الصدد يقول ابن تيمية : "المعقول الصريح لا يخالف المنقول الصحيح".

هذا هو النهج الذي استلهمه ابن باديس في بناء اتجاهه الفلسفي, ومن هنا نتبين أن تفكير ابن باديس كما يصفه محمد الميلي كان تفكيرا أصيلا, يجمع إلى العقلانية المتحررة الإيمان بالقيم الإسلامية.

وقد يبدو هذا الاتجاه غريبا بالنظر إلى ثقافته التقليدية وقراءاته الدينية, والبيئة العائلية المحافظة التي نشأ فيها, لولا أن هناك عوامل أسهمت في بروز هذا الاتجاه, وقد أشار الأستاذ محمد الميلي إلى بعضها وهي كما يلي :

1- معايشة ابن باديس الأوساط المحتكة بالتيار الثقافي الغربي, مما جعله يلاحظ عن كثب العوامل التي كانت سببا في تفرق الغرب وتقدمه, ولعل هذا هو الذي جعله لا يتردد في الدعوة إلى الأخذ بأسباب التقدم وطلب المعرفة بأية لغة, ومن أي مصدر.

2- التأثير المزدوج في ثقافته والذي يرجع إلى دراسته في تونس : تأثير التيار العصري التاريخي ممثلا في (الشيخ البشير صفر), أحد مشايخه, وتأثير التيار الإسلامي التقليدي الإصلاحي ممثلا في (الشيخ محمد النخلي), الذي كان له الفضل في توجيه عقله فيما يقرأ, وزوال الغشاوة التي كانت على ذهنه من التقليد.

3- الآثار التي تركتها أفكار الأفغاني وشكيب أرسلان والكواكبي, وغيرهم ممن كان لهم فضل في بعث اليقظة الفكرية في الشرق العربي, التي انتقلت آثارها بشكل غير مباشر إلى المغرب العربي, وأثرت في علمائه, وفي اتجاهات الغصلاح عندنا.

[/align]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.