الطاغوتية تعني: مجاوزة الحد، كمجاوزة الحق إلى الباطل، ومجاوزة الإيمان إلى الكفر، ومجاوزة الخير إلى الشر، ومجاوزة الشورى إلى التسلط والاستبداد، فمجاوزة الحد في كل شيء تسمى طغيانًا، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11]، يعني لما زاد الماء عن الحد المعتاد حملناكم في الجارية يعني السفينة.
والطواغيت في هذه الحياة كثيرة، ولكن رؤوسهم خمسة كما ذكر ذلك العلامة ابن القيم وغيره.
الأول: إبليس لعنه الله فإنه رأس الطواغيت، وهو الذي يدعو إلى الضلال والكفر والإلحاد، ويدعو إلى النار؛ فهو رأس الطواغيت، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّـهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّـهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ۚ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل:36].
والثاني: من عُبد من دون الله وهو راضٍ بذلك، فإن من رضي أن يعبده الناس من دون الله فإنه يكون طاغوتًا كما قال تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّـهِ ۚ مَن لَّعَنَهُ اللَّـهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ۚ أُولَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:60]، فالذي يُعبد من دون الله وهو راض بذلك هذا طاغوت، أما إذا لم يرض بذلك فليس كذلك.
والثالث: من ادعى شيئًا من علم الغيب، فمن ادعى أنه يعلم الغيب فهو طاغوت؛ لأن الغيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا . وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّـهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء:60-61]، فالذي يدعي أنه يعلم الغيب هذا يجعل نفسه شريكًا لله عز وجل في علم الغيب؛ فهو طاغوت.
والرابع: من دعا الناس إلى عبادة نفسه، فالذي يدعو الناس إلى أن يعبدوه، ويريد أن يكون إلهًا ولو لم يقل إنه إله لكن إذا دعا الناس إلى أن يتقربوا إليه بالعبادة ويزعم أنه يشفي مرضاهم، وأنه يقضي حوائجهم التي لا يقدر عليها إلا الله عز وجل، وأنه يقدر أن يضرهم بما لا يقدر، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَـٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:51]، حكى القفال عن بعضهم أن الجبت أصله جبس، فأبدلت السين تاء، والجبس هو الخبيث الردئ، وأما الطاغوت فهو مأخوذ من الطغيان، وهو الإسراف في المعصية، فكل من دعا إلى المعاصي الكبار لزمه هذا الاسم. (تفسير الرازي 5/232).
والخامس: من حكم بغير ما أنزل الله عز وجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا . وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّـهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء:60-61]، فالذي يحكم بغير ما أنزل الله وهو يرى أن حكمه بغير ما أنزل الله أصلح للناس وأنفع للناس وأنه مساوٍ لما أنزل الله وأنه مخير بين أن يحكم بما أنزل الله أو يحكم بغيره، أو أن الحكم بغير ما أنزل الله جائز فهذا يعتبر طاغوتًا، وهو كافر بالله عز وجل.
والمؤمن مطالب بمحاربة الطاغوت واجتناب كل ما يؤدي إلى عبادته أو الوقوع في شركه -بفتح الشين أو بكسرها-، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّـهِ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ ۚ فَبَشِّرْ عِبَادِ . الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّـهُ ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:17-18]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سعى على والديهِ ففي سبيل الله، ومن سعى على عياله ففي سبيل الله، ومن سعى على نفسه ليعفها فهو في سبيل الله، ومن سعى مكاثراً ففي سبيل الطاغوت، وفي رواية: سبيل الشيطان» أخرجه البزار (1871- الكشف)، وأبو نعيم في الحلية (6/196 -197)، والأصبهاني في الترغيب و الترهيب (ق47/2 -48)، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (5/272).
وإذا كانت الطاغوتية لها رؤوس خمسة كما أسلفنا، فإن هناك نوع من الطاغوتية في الحكم والسياسة حذر الدين الحنيف منها، وهي موضوعنا في هذه السطور، وهذه الطاغوتية صناعة يصنعها البشر ووسيلة يتخذونها لاستعباد الناس واسترقاقهم بعد أن جاء الإسلام لتحرير الإنسان من الرق والعبودية، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وهناك جهات أربع تشترك في صناعة الطاغوت وهي:
1- نفسه الأمارة بالسوء:
أول من يصنع الحاكم الطاغوتي نفسه الأمارة بالسوء، والتي تجعله يسير وراء هواه ويتخذه إلهًا ومعبودًا، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّـهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّـهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23]، فينزل الحاكم على حكم العاطفة من غير تحكيم العقل أو الرجوع إلى شرع أو تقدير لعاقبة، فإذا ما تحدث تحدث عن هوى، وإذا ما قاتل قاتل عن عصبية ومصلحة، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76]، فهو في حكمه يرى نفسه أعقل الناس وأذكاهم وأرجحهم رأيًّا وأوفرهم عقلًا، فلا يصلح للحكم غيره، فهو المعصوم الذي لا يخطئ، والمصان الذي لا يهان، وعلى الناس أن لا ترى إلا بعينه ولا تسمع إلا بأذنه، كما قال الله تعالى عن فرعون: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29].
بل يرى نفسه أفضل من أبي بكر الذي حينما تولى الخلافة خطب في الناس قائلًا: "أَمّا بَعْدُ أَيّهَا النّاسُ فَإِنّي قَدْ وُلّيت عَلَيْكُمْ وَلَسْت بِخَيْرِكُمْ فَإِنْ أَحْسَنْت فَأَعِينُونِي، وَإِنْ أَسَأْت فَقَوّمُونِي، الصّدْقُ أَمَانَةٌ وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ وَالضّعِيفُ فِيكُمْ قَوِيّ عِنْدِي حَتّى أُرِيحَ عَلَيْهِ حَقّهُ إنْ شَاءَ اللّهُ، وَالْقَوِيّ فِيكُمْ ضَعِيفٌ عِنْدِي حَتّى آخُذَ الْحَقّ مِنْهُ إنْ شَاءَ اللّهُ، لَا يَدَعُ قَوْمٌ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللّهِ إلّا ضَرَبَهُمْ اللّهُ بِالذّلّ، وَلَا تَشِيعُ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطّ إلّا عَمّهُمْ اللّهُ بِالْبَلَاءِ أَطِيعُونِي مَا أَطَعْت اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِذَا عَصَيْت اللّهَ وَرَسُولَهُ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ. قُومُوا إلَى صَلَاتِكُمْ يَرْحَمْكُمْ اللّهُ"، (السهيلي: الروض الأنف 4/450).
وأفضل من عمر -رضي الله عنه- الذي وهو على المنبر يخضع لأمر الله تعالى، ويقول للمسلمين أمامه: "إذا رأيتم مني اعوجاجًا فقوموني"، ولم يغضب حينما قال له رجل: يا أمير المؤمنين -ويشهر سيفه في المسجد- والله لو رأينا منك اعوجاجًا لقومناك بسيوفنا هذه، فيقول: "الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من يقومه بسيفه لو انحرف".
قال أبو يوسف في كتابه (الخراج ص19): رُوي عن الحسن البصري أن رجلًا قال لعمر بن الخطاب اتق الله يا عمر وأكثر عليه، فقال له قائل اسكت فقد أكثرت على أمير المؤمنين، فقال له عمر: "دعه لا خير فيهم إن لم يقولوها، ولا خير فينا إن لم نقبل".
وأوفى عقلًا من عمر بن عبد العزيز الذي قال عنه شَيْبَةُ بْنُ مُسَاوِرٍ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَضِيَ اللَّهُ عنه- يُحَدِّثُ زَمَانَ اسْتُخْلِفَ وَجَلَسَ عَلَى الْمِنبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُرْسِلْ رَسُولًا بَعْدَ رَسُولِكُمْ، وَلَمْ يُنَزِّلْ بَعْدَ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا، فَمَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ حَلَالٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ فَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَلَا وَإِنِّي لَسْتُ بِمُبْتَدِعٍ وَلَكِنِّي مُتَّبِعٌ، وَلَسْتُ بِقَاضٍ وَلَكِنِّي مَنَفِّذٌ، وَلَسْتُ بِخَيْرٍ مِن وَاحِدٍ مِنكُمْ، وَلَكِنِّي أَثْقَلُكُمْ حِمْلًا، أَلَا وَإِنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُطَاعَ فِي مَعَاصِي اللَّهِ، أَلَا هَلْ أَسْمَعْتُ؟ أَلَا هَلْ أَسْمَعْتُ؟" (السيوطي: تاريخ الخلفاء ص215).
وهذا ما يصوره له خياله المريض فيظن أنه الزعيم الملهم والقائد الموحى إليه، فيصاب بعد ذلك بمرض جنون العظمة، الذي يحوله من حاكم إلى طاغوت، فيتكبر ويتجبر ويتعالى على الحق، قام الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان يخطب من على المحراب في الناس قائلًا: والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه. فوات الوفيات لابن شاكر (2/404).
2- بطانة السوء الفاسدة:
الصانع الثاني للحاكم الطاغوتي: بطانة السوء الفاسدة التي تزين له الشر، وتقلب له الحق باطلًا والباطل حقًا، ولقد نهانا الله تعالى عن موالاة بطانة السوء قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118]، وأن نوالي من هم أولياء الطاغوت، قال سبحانه: {اللَّـهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:257].
فمن سخط الله على الحاكم أن يجعل له بطانة فاسدة لا تأمره إلا بالشر والسوء، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا اسْتُخْلِفَ خَلِيفَةٌ إِلاَّ لَهُ بِطَانَتَانِ بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ» أخرجه أحمد 3/39(11362)، والبُخَارِي 8/156(6611).
جاء في فتح الباري بشرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني (ج:13، ص:202): البطانة: الدخلاء، جمع دخيل، وهو الذي يدخل على الرئيس في مكان خلوته، ويفضي إليه بسره، ويصدقه فيما يخبره به مما يخفى عليه من أمر رعيته، ويعمل بمقتضاه. وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي بشرح الترمذي (ج:6، ص:237): «إلا وله بطانتان»: البطانة أي الصاحب، وهو الذي يُعرّفه الرجل أسراره ثقة به، شبهه ببطانة الثوب.
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله بالأمير خيرًا جعل له وزير صدق، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكره، وإن ذكر لم يعنه» رواه أبو داود في عون المعبود (8/150)، قال الشارح: (والحديث سكت عنه المنذري)، ورواه النسائي (33)، وأحمد (6/70).
فبطانة الشر يستخفها الحاكم ولا يقرب غيرها؛ لأنها هي التي تواليه وتحابيه، قال تعالى عن فرعون: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54]، بل وهي التي تفسده وتضيعه، فيردد ما يقولون كما قال الشاعر في وصف أحدهم:
قال الإمام سفيان الثوري: لما حج المهدي قال: لا بد لي من سفيان، فوضعوا لي الرصد حول البيت، فأخذوني بالليل، فلما مثلت بين يديه قال لي: لأي شيء لا تأتينا فنستشيرك في أمرنا؟ فما أمرتنا من شيء صرنا إليه وما نهيتنا عن شيء انتهينا عنه، فقلت له: كم أنفقت في سفرك هذا؟ قال: لا أدري، لي أمناء ووكلاء، قلت: فما عذرك غدًا إذا وقفت بين يدي الله تعالى فسألك عن ذلك؟ لكنّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما حج قال لغلامه كم أنفقت في سفرنا هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين ثمانية عشر دينارًا، فقال: ويحك أجحفنا بيت مال المسلمين، وقد علمت ما حدثنا به منصور عن الأسود بن علقمة عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ربّ متخوّض في مال الله ومال رسوله فيما شاءت نفسه له النار غدًا»، فيقول أبو عبيد الكاتب: أمير المؤمنين يستقبل بمثل هذا؟ فيجيبه سفيان بقوة المؤمن وعزة المسلم: اسكت، إنما أهلك فرعون هامان. (وفيات الأعيان 2/387).
قال الشاعر:
وقال آخر :
3- علماء السلطة المنافقون :
وهناك علماء السلطة المنافقون الذين يضفون نوعًا من الشرعية الدينية على الحاكم الطاغوتي المستبد، فيحلون له الحرام ويحرمون له الحلال، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّـهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّـهُ أَذِنَ لَكُمْ ۖ أَمْ عَلَى اللَّـهِ تَفْتَرُونَ . وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّـهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّ اللَّـهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} [يونس:59-60]، بل ويساعدونه على التسلط والاستبداد بفتواهم التي لا يرعون فيها ذمة، ولا يصونون بها علمًا، مما يجعل الحاكم يستمد منهم وجوده وشرعيته، فينسون النصح له، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ِللهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِنَبِيِّهِ، وَلأَئِمَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَامَّتِهِمْ» أخرجه أحمد 4/102(17064)، ومسلم 1/53(107).
ولا يرون مقاومة ظلمه وجبروته، ويطوّعون النصوص الدينية لخدمته، فيلون أعناقها ويؤلونها حسب ما يراه ويعتقده، فيدّعون أن طاعة الحاكم وإن كان طاغوتيًا ظالمًا واجبة ولا يجوز الخروج عليه، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّـهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59]، ولا يذكرون اتفاق المفسرين على أن طاعة الله مطلقة وطاعة رسوله مطلقة، ولكن طاعة ولي الأمر مقيدة بالمعروف، ولذا لم تكرر الآية لفظ "وأطيعوا" عند ذكر أولي الأمر.
وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» أخرجه أحمد 1/82(622)، والبُخَارِي 5/203(4340)، ومسلم 6/15(4793)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله» أخرجه الحاكم (3/195) ،والألباني في السلسلة الصحيحة (1/648)، وقول الله تعالى: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ . الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [الشعراء:151-152]، وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» أخرجه أبو داود (4344)، والألباني في السلسلة الصحيحة (1/806).
ولقد ذكر لنا التاريخ نماذج رائعة لعلماء ربانيين واجهوا ظلم الحكام وتحملوا في ذلك من الجلد والحبس والنفي بل والقتل، كما حدث بين سعيد بن جبير والحجاج بن يوسف الثقفي، وبين سعيد بن المسيّب وهشام بن إسماعيل، وبين طاووس وهشام بن عبد الملك، وبين الحسن البصري والحجاج، وبين أبي حنيفة والمنصور، وبين الثوري والمهدي، وبين الفضيل والرشيد، وبين المنذر بن سعيد والخليفة الناصر، وبين العز بن عبد السلام والملك الصالح، وبين النووي والظاهر بيبرس، وبين ابن تيمية وغازان. انظر: وحيد عبد السلام بالي (صور من ابتلاء العلماء).
فكم من علماء دين أفسدوا الحاكم بفتاويهم وأناموا الشعوب وخذلوهم بتأويلاتهم، ونشروا اليأس بين الناس في التغيير والإصلاح بكلامهم.
قال ابن المبارك -رحمه الله-:
روى عن عمران بن حصين -رضي الله عنهما– مرفوعًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي: منافق عليم اللسان» رواه أحمد (1/22،44)، والطبراني في الكبير (18/237)، وصححه الألباني في الجامع الصغير وفي الصحيحة (ح1013)، قال المناوي في (فيض القدير 1/52): كل منافق عليم اللسان: أي عالم للعلم، منطلق اللسان به، لكنه جاهل القلب والعمل، فاسد العقيدة، مغر للناس بشقاشقه وتفحصه وتقعره في الكلام.
وعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر -رضي الله عنه-: "هل تعرف ما يهدم الإسلام؟" قال: قلت: لا، قال: "يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين" رواه الدرامي، وصححه الألباني في تحقيقه لمشكاة المصابيح للتبريزي (1/ 269).
زين رجال السوء ممن ينتسبون للعلم للخليفة المأمون أن يعتقد القول بأن القُرْآن مخلوق حتى اعتقده واعتنقه وآمن به وكان له وزير يسمى أحمد بن أبي دؤاد وهو أبرز من زين له هذه البدعة، وكان من تلاميذ تلاميذ الجهم، فلما استقر المأمون على ذلك، لم يكتف بأن يعتقد البدعة، بل كتب أوامره إِلَى جميع الولاة في الدولة جميعًا أن يرغموا الناس، ويمتحنوهم عَلَى القول بخلق القرآن.
فمن قال به نجا، ومن لم يقل بذلك فإنه يجلد ويعذب ويضرب، حتى يقول بهذه العقيدة الضالة المبتدعة، ومن هنا عظمت المحنة عَلَى علماء الإسلام، وابتلوا في كل مكان بالحبس والسجن والأذى، واشتد الأمر، وعظم الخطب، ونكل بهم المبتدعة الذين ولاهم ابن أبي دؤاد، وكانوا شديدي الحقد عَلَى هَؤُلاءِ العلماء من أهل السنة الذين هم عَلَى العقيدة الصحيحة.
وهذا عتاب بن إبراهيم المحدث الذي اشتهر عنه أنه نافق الخليفة المهدي وكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان المهدي يحب اللعب بالحمام والسباق بينها، فدخل عليه جماعة من المحدثين فيهم عتاب بن إبراهيم فحدثه بحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا سَبَقَ إِلَّا فِي نَصْلٍ أَوْ خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ»، وزاد الحديث أو جناح فأمر له المهدي بعشرة الآف ولما خرج قال: والله إني أعلم أن عتابًا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أمر بالحمام فذبحه ولم يذكر عتابًا بعدها. البداية والنهاية لابن كثير (10/157).
وهذا أبو الحسن بن على بن جبلة الخراساني الملقب بالعكوك الشاعر الذي قال في أبي دلف القاسم بن عيسى العجلي:
فأحضره الخليفة المأمون بين يديه وقال له: أَسْتَحِلُّ قَتْلَكَ من أجل شركك وقولك في عبدٍ ذليلٍ هذه الأبيات ذاك الله يفعله، أخرجوا لسانه من قفاه فأخرجوا لسانه، جزاء وفاقًا. البداية والنهاية لابن كثير (10/280).
وهذا ابن هانئ الأندلسي الذي مدح الخليفة المعز الفاطمي بمدح قد يصل إلى الكفر فقال :
وفي عصرنا وجدنا أحد وزراء الأوقاف يقول لأحد الرؤساء العرب: يا مجري النعم ويا مغيث النقم، وآخر يقول لآخر في احتفال ليلة القدر: يا سيادة الرئيس السلام يقرؤك السلام في ليلة السلام.
قال الشاعر :
4- الشعوب المستكينة المستسلمة:
شتان شتان بين حاكم يحبه شعبه ويرون فيه القدوة والمثل، وبين حاكم يرى فيه شعبه السوط الذي يجلد ظهورهم كل يوم، قال الشاعر:
لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة كتب إلى الحسن أن يكتب إليه بصفة الإمام العادل، فكتب إليه الحسن -رحمه الله-: اعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل، وقصد كل جائر، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفة كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف. والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله، الرفيق الذي يرتاد لها أطيب المرعى، ويذودها عن مراتع الهلكة، ويحميها من السباع، ويكنفها من أذى الحر والقر. والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالأب الحاني على ولده، يسعى لهم صغارًا ويعلمهم كبارًا، يكتسب لهم في حياته ويدخر لهم بعد مماته. والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة البرة الرفيقة بولدها، حملته كرهًا ووضعته كرهًا، وربته طفلًا، تسهر بسهره وتسكن بسكونه، ترضعه تارة وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته وتغتم بشكايته. والإمام العادل يا أمير المؤمنين وصي اليتامى وخازن المساكين، يربي صغيرهم ويمون كبيرهم. والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوانح، تصلح الجوانح بصلاحه وتفسد بفساده. والإمام العادل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم، فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملكك الله، كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله فبدد المال وشرد العيال، فأفقر أهله وفرق ماله.
واعلم يا أمير المؤمنين أن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش، فكيف إذا أتاها من يليها، وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم. واذكر يا أمير المؤمنين الموت وما بعده وقلة أشياعك عنده وأنصارك عليه فتزود له ولما بعده من الفزع الأكبر. واعلم يا أمير المؤمنين أن لك منزلا غير منزلك الذي أنت فيه، يطول فيه ثواؤك ويفارقك أحباؤك يسلمونك في قعره فريدًا وحيدًا، فتزود له ما يصحبك يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه. واذكر يا أمير المؤمنين إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور، فالأسرار ظاهرة والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. فالآن يا أمير المؤمنين وأنت في مهل قبل حلول الأجل وانقطاع الأمل، لا تحكم يا أمير المؤمنين في عباد الله بحكم الجاهلين، ولا تسلك بهم سبيل الظالمين، ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين فإنهم لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، فتبوء بأوزارك وأوزار مع أوزارك وتحمل أثقالك وأثقالا مع أثقالك، ولا يغرنك الذين يتنعمون بما فيه بؤسك ويأكلون الطيبات في دنياهم بإذهاب طيباتك في آخرتك، لا تنظر إلى قدرتك اليوم ولكن انظر إلى قدرتك غدًا وأنت مأسور في حبائل الموت وموقوف بين يدي الله في مجمع من الملائكة والنبيين والمرسلين وقد عنت الوجوه للحي القيوم. إني يا أمير المؤمنين وإن لم أبلغ بعظتي ما بلغه أولو النهى من قبلي، فلم آلك شفقة ونصحا، فأنزل كتابي إليك كمداوي حبيبه يسقيه الأدوية الكريهة لما يرجو له في ذلك من العافية والصحة. أحمد زكي صفوت (جمهرة خطب العرب 2/495).
فهذه بعض صفات الإمام العادل الذي يرى فيه الناس الأب الحاني والظل الظليل، فتجب عليهم طاعته ويفرحون بولايته، لا كما سلط على بلاد العروبة والإسلام من حكام لم يعرفوا من الإسلام إلا اسمه ولا من العدل إلا رسمه، فكانوا كما قال الشاعر:
فهذا الحاكم المستبد يجعل الشعوب تستبد معه، وتواليه في استبداده بدل أن تكون هي المعين على إصلاحه وتقويمه، فتكون من أدوات صنع الطواغيت طواعية أو كرهًا، وكان الواجب عليها أن تقاوم الظلم وتجابه الفساد، وتعمل على إزالة الطغيان والاستبداد.